الحلقة الثانية )
*تأليف: جورجينا هاويل
*كانت تخفي أنها أنثى من دون أن تقصد
*البداية: شراء حصان ودرس جديد في اللغة العربية
'ميس بيل'، أو الآنسة غيرترود بيل، تعرف عن العرب والجزيرة العربية أكثر من معظم الانكليز الأحياء رجالا ونساء، صدرت هذه الكلمات عن اللورد كرومر، المندوب السامي البريطاني السابق في مصر في عام 1915.
فأثناء زيارة سياحية لها للقدس في عام ،1900 لم تكن 'مس بيل' تدرك كيف واين سيقودها وصولها الى هناك، لكن ربما تكون تلك هي بداية شغفها بالصحراء، فمعظم العالم كان يجهل تلك المنطقة التي تعرف بصفة عامة باسم بلاد العرب. وكانت امة واحدة تحكم تلك الصحاري غير المأهولة، والأودية الخصيبة، والجبال الوعرة، والمناطق القبائلية، والاراضي التي تخضع لحكم الأئمة والمشايخ، والمستعمرات التي تمثل مساحتها نسبة اثنين في المائة من كتلة الكرة الأرضية، اذ تصل تلك الاراضي الى نهر الأردن قرب شرق البحر الابيض المتوسط وقرن القارة الافريقية وبعدها جنوبا الى المحيط الهندي، ومن البحر الأحمر الى الخليج، وشمالا على طول حدود ايران الى الجبهة الروسية حيث تشكل تركيا حدها الشمالي.
شرق أوسط
هذه المساحة الشاسعة لم تطلق عليها تسمية 'الشرق الأوسط' حتى عام ،1902 عندما جرت صياغة العبارة على يد خبير الاستراتيجية البحرية الأميركي ألفرد ثاير ماهان. وفيما يختص بالغرب فانه حال شق قناة السويس في ستينات القرن التاسع عشر، باتت الطرق الصحراوية التي ظلت تقطعها قوافل الجمال محملة بالبضائع لعدة قرون، جزءا من الماضي، اذ حالما اصبح في استطاعة السفن التجارية الوصول الى الهند بسهولة، وذلك قبل ظهور ماكينات الاحتراق الداخلي، والنفط، ولم تعد تلك الكتلة من الاراضي الشاسعة مصدر اهتمام اي جهة، فيما عدا سواحلها الجنوبية وجبالها الشمالية، وعدا حكامها الاتراك الموجودين في القسطنطينية البعيدة والبلدان التي تعرف حاليا باسم سوريا ولبنان وإسرائيل وفلسطين والأردن والمملكة العربية السعودية والعراق كانت في ذلك الوقت مناطق غير محددة تقع ضمن الإمبراطورية العثمانية.
أساليب تركية
فلعدة مئات من السنين ظل الأتراك يتسللون إلى تلك المناطق، وفرضوا بعدها سيطرتهم على البلدان والمدن الكبرى التي تحيط بالصحاري وتقع في قلب الشرق الأوسط. وقد أدخل العثمانيون قوانين نابليون، واللغة التركية كلغة للإدارة والتعليم في تلك المناطق. كما جذبوا بعض الشخصيات العربية البارزة ضمن الشبكة التركية التي أقاموها حيث قدموا لهم المكافآت لولائهم وذلك حتى تحولت تلك القبضة الناعمة إلى أخرى قاسية. وقد تم الحفاظ على هذا الوضع من خلال الفساد المنظم، وزرع العداوة بطريقة متقنة فيما بين سكان المنطقة. ولكن وكما اكتشفت غيرترود وبسرعة ان السلطة العثمانية لم تتغلغل سوى بضعة أميال في المناطق الصحراوية حيث يتصرف شيوخ البدو بحرية تامة، ويدافعون عن آبارهم الثمينة وطرق قوافلهم، والمراعي الشحيحة في وجه جيرانهم ومنافسيهم، وقد ظلت الصحراء يسودها غياب القانون، ولا يمكن قطعها او المرور عبرها من دون ان يكون الشخص متسلحا بالشجاعة ومعرفة اللغة العربية وسياسات العشائر البدوية وعاداتها، كما ادركت ذلك غيرترود حتى تم الترحيب بها في خيامهم.
اليهود تجار المدن
كانت المدن العربية كوسموبوليتية، وكان اليهود الناجون بعد تدمير مجتمعاتهم على ايدي الرومان في القرن الاول الميلادي قد لجأوا اليها، واستمروا في العمل في مجال التجارة، حيثما امكنهم ذلك، وقد انتعشت وازدهرت حياة اليونانيين والمصريين والفرس والارمن والآشوريين المسيحيين، اضافة الى المسلمين من تجارة قوافل الابل، فيما بين الهند واوروبا وافريقيا، كما ربحوا من عوائد الحج السنوي الى مكة والمدينة، وعملوا مسؤولين صغارا في الادارة التركية.
القدس.. محط الأنظار
والمدينة الاكثر كوسموبوليتية كانت القدس، التي تواصل غزوها عبر القرون منذ مغادرة الرومان لها، وقد تحولت الى مدينة عربية، ألحقت بالامبراطورية العثمانية عام 1840، ومنذئذ ظلت محط تركيز كل الدول الاوروبية، التي ترغب في تأكيد تاريخها الديني، فقد بنى الفرنسيون، والبريطانيون، والالمان والايطاليون والروس بصفة خاصة، كنائس ومستشفيات وكليات هناك، وبحلول الوقت الذي وصلت فيه غيرترود اليها كانت الجالية اليهودية تكتسب نفوذا، مما زاد من عدد مستوطنات اللاجئين، ومدينة القدس التي كانت تضم سبعين الف نسمة كانت محورا للثقافات والمصالح الخاصة عند مدخل بلاد العرب.
بيل في القدس
لم تبدأ حياة غيرترود كرحالة في ارجاء الصحراء حتى بلوغها سن الثانية والثلاثين، وذلك عندما قبلت دعوة لحضور اعياد الميلاد قدمتها لها نينا روزين صديقتها القديمة، وزوجة القنصل الالماني في القدس حينها.
وكانت القنصلية الالمانية صغيرة فيها ثلاث غرف نوم فقط، وقد تشارك طفلا عائلة روزين احدى تلك الغرف، واقامت في الحجرة الثانية شارلوت شقيقة نينا، وكانت غيرترود تنوي الاقامة لعدة اشهر في القدس، وحجزت غرفة في فندق القدس، الذي يبعد مسافة دقيقتين عن القنصلية، حيث يمكنها تناول الوجبات مع الاسرة والقيام بزيارتها.
أسلوب حياة.. وعمل
والاستقرار في فندق في الشرق الاوسط ، سواء ان كان ذلك في القدس او دمشق او بيروت او حيفا يشكل طقسا سعيدا، بل يعد بداية مهمة للتنظيم الدقيق الشامل المطلوب في بداية رحلات غيرترود الاستكشافية، وفي هذه اللحظة بالذات كانت ترغب فقط في شراء حصان وبداية كورس جديد في اللغة العربية، غير ان تلك الترتيبات الاولية وضعت نسقا لن يتغير البتة، فهي تحجز دائما غرفتين مع شرفة تطل على منظر، وتحول احدى الغرفتين الى مكان لعملها، للترتيب للحملة المقبلة، وهي تضع كرسيين وطاولتين ولا تضع اي قطعة اثاث اخرى فيها. وبعد اخراج كتبها من الكراتين وكذلك الخرائط تثبت صورها على الحائط باستخدام مطرقة صغيرة ومسامير احضرتها معها لهذا الغرض.
وفي هذه الزيارة الاولى عينت فورا مدرسا وشرعت في تلقي ستة دروس في اللغة العربية اسبوعيا. وكانت تقضي بقية الوقت قبل فترة اعياد الميلاد في ركوب الخيل والانضمام الى اسرة روزين واطفالهما ومشاركتهم في اعمال الزينة الخاصة بالميلاد.
اليأس.. من العربية
وكانت غيرترود تتحدث الفرنسية والايطالية، كما ان معرفتها باللغة الفارسية كانت جيدة وكذلك الالمانية. وهي تفهم القليل من العبرية وتستطيع تعلم التركية بسهولة ولكنها كانت اللغة الوحيدة التي لم تستمر في تعلمها. وقد تأكدت من صعوبة تعلم العربية وبأكثر مما توقعت. والتقدم البطيء في تعلم هذه اللغة لم يفت من عزمها، وقد اصيبت في اول اسبوعين في تعلم العربية باليأس وجربت عددا من الخيول قبل ان تختار حصانا عربيا صغيرا. ودفعت مقابله حوالي 18 جنيها استرلينيا وكانت تأمل في ان تبيعه بالسعر نفسه عند مغادرتها، وبدأت بركوبه لاستكشاف التلال والاودية. كما اصبحت تحمل معها كاميرا للتصوير الى الاماكن التي تذهب اليها حيث صورت النساء اثناء سيرهن الى جوارها في الشوارع وطقوس التعمير للحجاج الروس. وفي اطراف القدس توقفت لمشاهدة خيمة من خيام البدو السوداء التي اختفت في اليوم التالي من دون ان تخلف اي اثر.
الرحلة الاستكشافية الأولى
وفي مارس عام 1900 وعلى الرغم من سوء الاحوال الجوية، قررت غيرترود القيام برحلة استكشافية لمدة عشرة ايام او نحو ذلك في منطقة تلال مؤاب، حيث قطعت حوالي سبعين ميلا على طول الشاطئ الشرقي للبحر الميت. وكانت تلك اول رحلة تقوم بها بقافلتها الخاصة وطاقمها المكون من ثلاثة اشخاص: طباخ واثنان من سائقي البغال لا يتحدث اي منهم اللغة الانكليزية وقد وضعت في اعتبارها اختيار دليل للرحلة اثناء سيرها، ربما جندي تركي ليتنقل فيما بين الحماميات المختلفة.
أعجبها قائد البغال
وحال وصولها الى السهل الاردني وجدت نفسها غارقة في حقل من الزهور البرية. وتقع بعده حقول للذرة كان قد زرعها البدو الذين سيحصدونها عند عودتهم.
وتحسنت لغتها العربية، وكانت تتحدث بصفة اساسية الى محمد، قائد البغال الدرزي، الذي كان يتناول فقط الارز والخبز والتين. وقد اعجبت به، وأحبت حكاياته حول موطن عشيرته. وقررت ان تزور سوريا للقاء ابناء عشيرته. وفي أثناء شرائها للزبادي من اسرة من عشيرة الغنيمات توقفت لإجراء حديث عابر مع النساء والاطفال.
وعند بلوغها قلعة الصليبيين في الكرك كان عليها العودة الى القدس لكنها غيرت رأيها وأضافت ثمانية ايام اخرى لرحلتها لزيارة الآثار النبطية في البتراء. فقد كانت ترغب في مشاهدة ذلك المبنى الجميل المنحوت من الاحجار الجيرية ذات اللون الوردي. وعندما جاء مسؤول تركي لتفتيش قافلتها ومعرفة وجهتها، ادركت انه كان عليها الحصول على اذن، وتظاهرت بأنها ألمانية، لأن الاتراك كانوا حذرين من الانكليز. وطلبت منه اخذها الى الحاكم المحلي الذي حصلت منه على اذن للسفر باتجاه الجنوب بصحبة جندي كدليل لها.
عند بني صخر
واتخذت القافلة الصغيرة بصحبة الدليل طريقها عبر مجموعة من طيور البجع التي كانت تلتهم سحابة من الجراد،وبعدها بقليل وجدوا انفسهم بالقرب من مخيم لبني صخر، العشيرة المقاتلة التي كانت آخر من يستسلم للحكم التركي، ولم تكن تدرك بعد قوانين الصحراء وضوابطها، اذ انها لم تكن تعرف انها حال وصولها الى مخيم او مضرب من المضارب، عليها القيام فورا بزيارة مجاملة الى الشيخ في خيمته، وبما انها كانت في صحبة جندي تركي وليس مع دليل محلي تدفع له اجره، فإنها وجدت نفسها تواجه مشكلة، فقد تعرضت قافلتها للتهديد مرتين على يد عدد من افراد عشيرة بني صخر المدججين بالسلاح، وقد ظهروا فجأة، وأحاطوا بالقافلة من جانبين وتراجعوا فقط عندما انضمت غيرترود الى الجندي التركي الذي كان يتبعها.
وعند بلوغها الطريق الى مكة، الذي يتخذه الحجاج لأداء فريضة الحج، وجدت انه لم يكن طريقا بالمعنى المعروف كان عريضا ومكونا من مئات المسارات التي خلفها سير القوافل التي يجيء بها الحجاج ويعودون الى ديارهم. وقد تعلمت خلال هذه الرحلة مبادئ الرحلات الصحراوية. وقد اكتشفت ان الخرائط تشتمل على اخطاء عديدة، وغالبا ما تسيء تقدير المسافات. وقد كان لديهم ماء ولكن الشعير والفحم نضبا وبقي معهم بعض الارز والخبز والقليل من اللحم. وتوقفوا في احدى القرى، معتقدين ان في مقدورهم شراء شاة او ربما دجاجة، لكنهم لم يحصلوا على اي شيء.
مع الغجر والكوب الواحد
لم يمض وقت طويل على ابتهاجها برؤية الواجهة الجميلة الساحرة لمباني البتراء والمسرح القريب منها، حتى باغتهم الجوع. ووصلت في وقت متأخر الى خيمتها في وادي موسى، حيث وجدت العديد من الحشرات ومع ذلك تمكنت من النوم نوما مريحا.
ومن البتراء عادت الى الشمال باتجاه البحر الميت، حيث اقامت خيمتها بجانب مخيم للغجر. وقد شاركتهم عشاءهم من الجبن الابيض وكوب من القهوة الذي كانوا يمررونه فيما بينهم، والجميع يشرب منه. ومع حلول الظلام بدأوا في عزف الموسيقى.
وقد بلغت نهاية رحلتها الاولى الاستكشافية، التي قطعت فيها 135 ميلا في ثمانية عشر يوما، وتعلمت خلالها درسا جديدا هو ان تعمل على حماية نفسها من حرارة الشمس. ففي رحلاتها اللاحقة في الصحراء السورية كانت ترتدي الكوفية التقليدية (الغترة) التي تربطها فوق القبعة وتلفها بأسفل وجهها، وخمارا ازرق بفتحات صغيرة تغطي وجهها حتى تتمكن من الرؤية. وكانت تخفي انها انثى من دون ان تقصد ذلك.
يتبعِ
2007-12-28, 12:23