عندما خاض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه معركة بدر الكبرى لم يكونوا أبدا في موقف العدوان , ولا في موقف من يسعى إلى الحرب ,أو يتمنى لقاء العدو , ولم يتحرك هو وأصحابه من أجل دنيا يصيبها أو مغنم يتطلع إليه , وإنما كانت كل خطواتهم من أجل حماية الإسلام والمسلمين من العدوان ؛ امتثالا لقوله تعالى :" وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ " ( البقرة :190).
هكذا اختار الله ـ سبحانه ـ لهم أفضل مما كانوا يودون , وكان هذا الاختيار لصالحهم , ولصالح الإسلام , فلو عادوا إلى المدينة بدون قتال لتطاول عليهم المشركون , واتهموهم بالخوف والجبن , ولضاعت هيبتهم بين القبائل , بل وداخل المدينة نفسها , التي كانت لا تزال مشحونة بالعدو القريب من المنافقين واليهود , وربما نقض هؤلاء عهودهم وتحالفوا مع قريش ضدهم , كما حدث فيما بهد , في ظروف كانت أفضل لصالح المسلمين .
وكان ثبات المسلمين في بدر أمام جموع تفوقهم عددا وعدة من قريش , والنصر الذي أنجزه لهم ربهم , كان ذلك مكسبا عظيما لدولة الإسلام الناشئة الصغيرة وسط جموع حاشدة من أعدائها من اليهود والمنافقين والمشركين ..
ومع البشرى التي ساقها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه بإحدى الطائفتين , لم يكن القتال اختيارا له , وإيثارا للحرب على السلام ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان يدرك أن إراقة الدماء ربما تشعل غريزة العداء له ولأصحابه في نفوس مشركي قريش , وربما توسع دائرة العداء والصراع ضد الإسلام , ودولته لا تملك من أسباب القوة ما تتصدى به لأعدائها ..
لذلك حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم تجنب القتال في بدر , وأرسل إلى قريش عمر بن الخطاب , يذكرهم بما بينه وبينهم من رابطة الدم والنسب , وأنه يكره أن يقاتلهم أو يقاتلوه , يقول لهم : ارجعوا , فلأن يلي هذا الأمر (القتال ) مني غيركم أحب إلي من أن تلوه مني , وأن أليه من غيركم أحب إلي من أن ألوه منكم .
ومال بعض العقلاء من قريش إلى الكف عن القتال , وقبول المهادنة , ومنهم عتبة بن ربيعة , وعمير بن وهب , وحكيم بن حزام , فقالوا لمن معهم من قريش : لقد عرض عليكم نصفا ( إنصافا ) فاقبلوه , والله لا تنتصرون عليه بعدما عرض عليكم النصف , لكن أبا جهل أبى أن ينصت لصوت العقل والحكمة , وظن أن هذه فرصة للقضاء على محمد وأصحابه , فقال : والله لا أرجع, ولا نطلب أثرا بعد عين , ولا يعترض لعيرنا بعد هذا أبدا
وجلس " عتبة بم ربيعة " على جمله , وأخذ ينادي في قومه : يا قومي أطيعوني , ولا تقاتلوا هذا الرجل وأصحابه , واجعلوا جبنها بي , فإن منهم رجالا قرابتهم قريبة , ولا يزال الرجل منكم ينظر إلى قاتل أبيه أوأخيه , فيورث ذلك بينكم شحناء وأضغانا , ولن تخلصوا إلى قتلهم حتى يصيبوا منكم عددهم , مع إني لا آمن أن تكون الدائرة ( الهزيمة ) عليهم .
وكادت قريش تستجيب لنصيحة عتبة , لولا أن اشتعل الحقد والحسد في صدر أبي جهل , وظن أن استجابة الناس لرأي عتبة , وعودتهم سالمين إلى مكة , سيجعله سيدا لقريش دون منازع , وكان عتبة حسن المنظر جميلا مهيبا في نظر قريش , فأفسد عليه رأيه , بل أفسد على قريش استجابتها لحكمته , فاتهم عتبة بأنه لا يصنع ذلك حبا لقريش , ولا رغبة في سلامة أبنائها , وحقن دمائهم , وأن ما يدفعه إلى ذلك خوفه على ابنه أبي حذيفة, وكان مع المسلمين , وخوفه أيضا على ابن عمه محمد , كما اتهمه بالجبن والخوف من الحرب , فاشتعلت الحمية في نفس عتبة , ورد عليه قائلا : ستعلم أينا أجبن وألأم , وستعلم قريش من الجبان المفسد لقومه .
وذهب أبو جهل إلى عامر بن الحضرمي الذي قتل أخوه في "بطن نخلة" بأيدي نفر من المسلمين , وكذب على عتبة ليستثير حفيظته للحرب , فقال له : زعم عتبة أنك قبلت دية أخيك , ألا تستحيي من قبول الدية , وقد قدرت على أن تثأر لأخيك !.
وأصمّت قريش آذانها عن نصيحة أخرى قدمها " عمير بن وهب " الذي حذرهم من قتال المسلمين , وقال لهم : إنهم قوم لا منعة لهم , ولا ملجأ إلا سيوفهم , والله ما أرى أن يُقتل منهم رجل حتى يَقتل منا رجلا , فإذا أصابوا منكم عددهم , فما خير العيش بعد ذلك ؟!.
ولم يكتف رسول الله بالرسالة الشفهية التي بعث بها إلى قريش أملا في أن يجنحوا إلى السلم , وإنما قدم موقفا عمليا , يظهر به ميله إلى السلم , وإيثار العافية ,حين أقبل منهم نفر يتحدون جماعة المسلمين , ويحاولون استثارتهم للقتال , فأقبلوا إلى الحوض الذي بناه المسلمون , ليوفروا الماء لهم ولماشيتهم , فأراد المسلمون أن يمنعوهم من الوصول إليه , فنهاهم عن ذلك وقال لهم : دعوهم , فوردوا الحوض وشربوا منه .
وحققت خطة أبي جهل ثمرتها المرة , فاستثار عامر بن الحضرمي , فوقف بين القوم يحثو التراب على رأسه , وتكشف وصرخ واعمراه !! يريد أن يخزي عتبة , ويعيره بأنه نقض ذمته مع أخيه , ولم يثأر له , وكان هو وأخوه حليفين لعبد شمس ـ قوم عتبة بن ربيعة ـ وأقسم عامر ألا يعود إلى مكة حتى يقتل من أصحاب محمد , ثم تقدم وهجم على المسلمين , وشاركه في هجومه " عمير بن وهب " وحاولا أن يحدثا خللا في صف المسلمين , لكنهم ثبتوا في مواقعهم , وحافظوا على صفهم , ونشبت المعركة , ودار القتال بين الطائفتين " فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة " .
فئة تدافع عن أمنها وسلامتها وعقيدتها , وأخرى معتدية , يقودها غرور القوة والحرص على الانتقام , والقضاء على الإسلام , وفئة صاحبة حق ومبدأ تدافع عنه , وأخرى تنكرت لكل حق , وكل مبدأ , وظنت أن القوة وحدها يمكن أن تحسم المعركة لصالحها , فتفرض هيمنتها وظلمها على الآخرين الذين لا يدينون بما تدين به من خرافة وباطل .
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ألا يسلوا السيوف حتى يغشاهم عدوهم , فأعدوا قسيهم , وترس بعضهم عن بعض بصفوف متقاربة , لا فرج بينها , وقد سل عدوهم السيوف ..
وتحول عتبة بن ربيعة عن رأيه إلى رأي أبي جهل , فتقدم مع ابنه الوليد , وأخيه شيبة , وطلبوا مبارزة أكفائهم من المسلمين , فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة من بني هاشم بقتالهم , هم حمزة بن عبد المطلب , وعلي بن أبي طالب , وعبيدة بن الحارث , قائلا لهم : قاتلوا هؤلاء الذين جاءوا بباطلهم , ليطفئوا نور الله .
وأخذ أبو جهل يحرض قومه على القتال بعدما قتل عتبة وأخوه وابنه , ويقول لهم : لا يهولنكم مقتل عتبة وشيبة والوليد , فإنهم عجلوا وبطروا حين قاتلوا , وايم الله لا نرجع اليوم حتى نقرن محمدا وأصحابه بالحبال , منّته نفسه أماني خادعة , فقدم حياته ثمنا لكفره وعناده ؛ ليشتري بها نار جهنم وبئس المصير .
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم كفا من الحصباء , فرمى بها القوم , وقال : شاهت الوجوه ! اللهم أرعب قلوبهم , وزلزل أقدامهم ! فانهزم أعداء الله , لا يلوون على شيء , والمسلمون يقتلون ويأسرون , وما بقي من المشركين أحد إلا امتلأ وجهه وعيناه ترابا