هروب .. واختفاء
كان على النساء والفتيات الصغيرات من قبيلة البادونج ان يخلعن الاطواق من حول رقابهن حتى لا يتم التعرف عليهن من قبل حرس الحدود التايلانديين الذين يعرفون ان هذه الاطواق تميز سكان نساء قبيلة البادونج الحدودية .. وبعد مسيرة ساعات طويلة بين الوديان والجبال وصلت نساء القبيلة وفتياتها الى داخل تايلاند .. ومنذ تلك اللحظة اختفى اي خبر عن مكان وجود هذه الجماعة ... وابتدأت واحدة من مآسي البشرية العظام .. مأساة معاملة الانسان واستغلاله لمتعة السياح مقابل دولارات معدودة .
الوصول الى الحديقة
بعكس ما كانت تعتقده النسوة والفتيات .... فساعات السفر الشاقة ورحلة التسلل عبر الحدود لم تثمر عن لقاء الفتاة بأبيها او امها .. ولا عن لقاء المرأة مع ابنها او زوجها .. فالنساء والفتيات وجدن انفسهن داخل شاحنات سافرت بهن الى منطقة تدعى "بان سان توندو" حيث حديقة الحيوانات التي كان يعتزم "تهانا" وعصابته المكونة من مكاتب سياحية واشخاص ذوو نفوذ في الحكومة التايلاندية استثمارها لجنى الاموال الطائلة من الدولارات التي سيدفعها السياح الاجانب مقابل زيارتهم الى اول حديقة حيوانات بشرية في آواخر القرن العشرين.
.. وبعد الوصول الى الحديقة أُجبرت النساء والفتيات على الاقامة في الحديقة وتم توزيعهن على مجموعة من الاكواخ المرتبة بنفس نظام اقفاص الحيوانات في اية حديقة عادية .. وتم توزيع الطعام والماء الذي يكفل لهن الاستمرار في الحياة ... وكانت سياط وبنادق حراس الحديقة جاهزة لقمع اي تمرد قد ينجم عن اي فرد من المجموعة .
وتم تلقين افراد مجموعة النسوة الزرافات بأن عليهن القيام مبكراً حيث ان يوم العمل سيبدأ من الساعة الثامنة صباحاً .. ويتوجب عليهن ان ينتشرن داخل اسوار الحديقة استعداداً لاستقبال الزوار وملاطفتهم والتقاط الصور معهم .
وصول الفوج السياحي الاول
بعد اسبوع من تجهيز الحديقة ، وبواسطة النشرات الدعائية والاعلانات عن حديقة " النساء الزرافات " التي كانت تقوم بها المكاتب السياحية في تايلاند وصلت الى الحديقة اربعة باصات تضم مجموعة من السياح الامريكان الذين قاموا بالتجوال في الحديقة بين النساء الزرافات والتقاط الصور معهن .. وكان يتعين على السائح ان يدفع خمس دولارات لقاء حضن المرأة او الفتاة الزرافة والتقاط صورة معها .. اما من كان يرغب بأكثر من ذلك فكان يتعين عليه دفع المزيد.
وبعد هذا الفوج السياحي فتحت باب السماء وبدأت افواج اخرى ممن سمعوا عن هذه الحديقة يزورون المكان ، فازدادت الافواج السياحية وهذه المرة كانت من دول اوروبا واستراليا واسيا .. وازدادت المبالغ الطائلة التي كانت تصب في جيوب تهانا واعوانه المشاركين في مؤامرة اهانة البشرية وتحقيرها الى هذه الدرجة التي يعجز عن وصفها اللسان .. وكما تقول "مو كي " لقد كانوا يقتربون منا ويشيرون الينا بإشارات تصاحبها ضحكات عالية كما لو كانوا يتعاملون مع القردة وحيوانات الشمبانزي .. ويبدو ان ترويج مكاتب السياحة لهذه الحديقة بإسم حديقة " النساء الزرافات" جعلتهم يعتقدون بالفعل بأننا فصيلة من الزراف .
احتياطات وقائية
وحتى يحافظ "تهانا" وعصابته على مصدر رزقهم قام المرتشون في مكتب العمل والهجرة التايلاندي بتسجيل النساء الزرافات في سجل العمال كعاملات رسميات استقدمهن "تهانا" لغرض عاملات قطف محاصيل التفاح ، لقاء اجر عبارة عن كميات من الرز وزيت الطبخ بالاضافة الى نصف دولار يومياً .
واعتاد تهانا القدوم مرة كل شهر الى حديقة الحيوانات راكباً سيارته الحديثة من طراز B.M.W لقبض الآف الدولارات التي تتجمع نتيجة زيارة الافواج السياحية ، اما باقي وقته فكان يمضيه في العاصمة بانكوك لغرض زيادة الدعاية والتنسيق مع المكاتب السياحية في سائر انحاء العالم لترتيب زيارة الوفود السياحية الى الحديقة .
بداية المتاعب ..
واصلت النساء الزرافات نضالهن من اجل التحرر من الحديقة ، ولم ييأسن مطلقاً من الفرج الذي سيأتي لا محالة .. وزاد من اصرارهن على ذلك موت واحدة منهن نتيجة الظروف الصحية الصعبة في الحديقة ، فقد ماتت "ماها بي" بعد اصابتها بآلام حادة في المعدة ولكن عدم توفر الدواء والاقتصار على اعطائها اقراص الاسبرين ادى بها الى النهاية المحتومة .. وبعد ان اصبحت محاولة الهرب من الحديقة من سابع المستحيلات بسبب الحراسة الشديدة التي يفرضها الحراس الذين ازداد عددهم مع ازدياد مدخولات الحديقة المادية .. بدأت النساء الزرافات يفكرن بطريقة اخرى .. فأهتدت احداهن الى فكرة جهنمية تتمثل استغلال اجهزة التسجيل التي تبث الموسيقى التي يرقصن عليها لزيادة متعة السياح .. ولم تكن فكرة التسجيل صعبة لأنه لم يخطر على بال الحراس بأن هذه التسجيلات ستُرسل بواسطة السياح الى ذويهن في قبيلة البادونج القاطنين في مخيم اللاجئين والذين ينتظرون قدومهن منذ اكثر من سنتين ومنذ اللحظات الاولى التي علموا بتسللهن الى تايلاند .. وكذلك فأن هذه الاشرطة ستصل الى عنوان قبيلة البادونج في بورما نفسها.
وفضلت النساء الزرافات ان تتم الاستعانة بالسياح من غير الاصل الاسيوي ، خشية ان يكون بعض هؤلاء الاسيويين قد حضروا للتجسس عليهن ولمعرفة خططهن في الهرب.
تحركات حكومية
اولى اشرطة التسجيل وصلت الى افراد قبيلة البادونج في بورما الذين قاموا بالاتصال بوكالة شؤون اللاجئين والتي قامت بتنظيم حملة اعلامية تهدف الى اجبار الحكومة على التدخل لدى السلطات التايلاندية للافراج عن النساء المحتجزات ولكن الحكومة خيبت ظن الجميع عندما بررت احتجاز النساء في تايلاند بتهمة التسلل غير المشروع والعمل غير الشرعي .
اما حكومة تايلاند نفسها فلم تحقق بالموضوع وانما اكتفت بأخذ غرامات مالية عن النساء المتسللات لقاء السماح ل"تهانا" باستمرار تشغيلهن في قطف التفاح والاعمال الزراعية وفقاً للاتفاقات المسجلة في مكتب العمل والهجرة التايلاندي .
وكانت الرشاوي والمبالغ المالية التي حصل عليها مختلف المسؤولون والمتنفذين في الحكومة التايلاندية كفيلة بالتعتيم على الموضوع ووضعه على الرف لعدة سنوات ... وهذا ما حصل عندما طلب "سودرات سيرويت" عضو جمعية حقوق الانسان التايلاندية من الحكومة التايلاندية بالتحقيق الجدي في الموضوع ، فكانت النتيجة تقرير مزيف ومفبرك قامت بتجهيزه اجهزة الشرطة ، يفند اداعاءات جمعية حقوق الانسان.
العدالة تتحقق !
لم تنقطع الضغوطات التي بدأت تمارس على الحكومة التايلاندية وهذه المرة من جمعيات حقوق الانسان في الخارج .. فأضطر رئيس الوزراء التايلاندي الى التحقيق في الموضوع بنفسه ، فارسل طاقماًمن مكتبه برئاسة سكرتيرته " لادوان ونج سونك " لزيارة مفاجئة الى هذه الحديقة التي اقامت الدنيا واقعدتها .. وكانت المفاجأة والنتائج تؤكد على الحقائق التي رفضت الحكومة التايلاندية تصديقها ... وبعد اجتماع سكرتيرة رئيس الوزراء مع " موكي " اخبرتها الاخيرة بقصة المعاناة التي عشنها على مدى سنتين وعن الظروف اللانسانية من قبل الحراس ...ومع رؤية السكرتيرة لاحدى النساء الحوامل من سكان الحديقة التي اجبرت على العمل رغم انها في الشهر التاسع من حملها ، لم يبقى هناك مجال لأي شك في طبيعة الحياة داخل الحديقة .
وبعد وقت قصير كانت قوات حكومية مسلحة تحاصر الحديقة .. حيث تم الافراج عن " النساء الزرافات" واعتقال "تهانا" وافراد عصابته .
وبدأت الحكومة حملة تحقيقات واسعة لمعرفة الاسباب التي ساعدت علي انشاء حديقة الحيوانات البشرية فوق الاراضي التايلاندية .. وشملت حملة الاعتقالات مسؤولين كبار في اجهزة الشرطة والداخلية .. اما بالنسبة للنساء الزرافات فقد قررت الحكومة عدم اعادتهن الى بورما بناءاً على طلبهن وخوفاً من ان يتعرضن للسجن او الاعدام بسبب تسللهن الى تايلاند .. الا ان مشكلتهن لا تزال عالقة.